موقع يهتم بالأخبار الاقتصادية المصرية يصدر من لندن
الجمعة, 26 ديسمبر 2025 | 5:11 صباحًا

الروائي ثائر الناشف: الألم مصدر الإبداع.. والفلسفة سبيلي إلى فهم الحياة والبشر

لفت وصول رواية “جرح على جبين الرحالة ليوناردو” إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية 2025، في دورتها الحادية عشرة، أنظار المثقفين والقراء العرب، الذين راق لهم موضوعها الجديد الذي يتناول مفهوم فلسفة الجرح في الفكر الإنساني، ومفاهيم الألم والغربة عبر سرد روحي وزمني متداخل.

أبدع مؤلف الرواية الكاتب السوري ثائر الناشف، المقيم في النمسا، في رسم شخصيات الرواية، ما جعلها تمثل منبرا لتقديم تفسيرات مختلفة لتجارب الألم ومعانيها في الحياة الإنسانية.

 

في حديثه مع “ثروة”، يوضح “الناشف” أن وصول الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا، استحقاق مهم لمسيرة عشر سنوات متواصلة في الكتابة الروائية، وقبلها عشر سنوات أخر في الكتابات النقدية الثقافية والأدبية المسرحية.

ويوضح أن ثيمة الألم بالنسبة له ليس مجرد قدر أو صدفة فرضتها الطبيعة، بل حالة ملازمة يطرحها الواقع الإنساني المعقّد بكل حمولاته التاريخية والفردية المتناقضة، مؤكدا أن الألم مصدر الإبداع، والمنفى أعظم مختبر للأدباء، فالابتعاد القسري عن أثمن ما يملكونه وفقدان من يحبون، يدفعونهم للكتابة بلا انقطاع، كما أنّ الكتابة لا تصبح مجرد وسلية للكاتب، بل غايته القصوى في سبيل تأكيد وجوده الحتمي.

المزيد في نص الحوار..

بداية.. كيف تصف وصول روايتك “جرح على جبين الرحالة ليوناردو” للقائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية 2025؟

شعرت بداية بارتياح وابتهاج كبيرين حالما بلغني خبر وصولها إلى القائمة القصيرة من أحد الأصدقاء الأعزاء، وهو صحفي مصري بالمناسبة، توقعت منذ البداية أن الرواية -بحسب قراءات العديد من الأصدقاء والنقاد- ستشق طريقها إلى القائمتين الطويلة والقصيرة، ولعل الحدث الأهم شعور الكاتب نفسه بقيمة النص، والجهد المبذول في إضفاء اللمسات الجمالية والإبداعية، لذا لم يكن وصولها أمرا مفاجئا لي، رغم حضور الأسماء والأعمال الروائية الكبيرة، إلا أن لجان التحكيم اختارت الروايات المميزة ذات الأثر الإبداعي؛ أرى أن وصول الرواية إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا، استحقاق مهم لمسيرة عشر سنوات متواصلة في الكتابة الروائية، وقبلها عشر سنوات أخر في الكتابات النقدية الثقافية والأدبية المسرحية.

 

ما الذي دفعك لاختيار شخصية تاريخية مثل ليوناردو لتكون مرآة لبطل معاصر؟ وهل هناك إسقاطات رمزية في هذا التوازي؟

عندما زرت مدينة ميلانو الإيطالية قبل عامين، وقفت أمام آثار ليوناردو الأدبية والفنية الخالدة، ورحت أنقّب عنها في المتاحف والساحات العامة، أقصد هنا شخصية ليوناردو دافنشي، فاختيار اسم البطل لم يكن مجرد صدفة، بل العمود المتين الذي نهضت على أساسه أحداث الرواية، كما أنه بصمة الرواية وسمتها الظاهرة؛ ليوناردو وفقا لسيرته الذاتية كان فليسوفا وفنانا وأدبيا وعالما بالفلك، رصيده المعرفي الهائل قادني لاختيار اسمه، فالرواية قّدمت الاسم كرحالة يحمل جرحا على جبينه، غايته اكتشاف الحقيقة القائمة حول بعض المفاهيم الشائكة والمسلّمات المشكوك فيها، والغوص في أعماق الذات، لعل هذا ما أحتاج إليه في حياته.

استحضار شخصية تاريخيّة عاشت في بدايات القرون الوسطى، وربطها بشخصية البطل المعاصر عيسى الروماني وضع النص أمام ثلاثة مستويات متوازية: التواصل الثقافي والحضاري بين الشرق والغرب، التكامل الإنساني والمعرفي، الارتحال عبر الأزمان والأماكن كأسلوب سردي جديد.

 

كيف تصف التحول من رواية ملحمية مثل “المسغبة” إلى عمل فلسفي روحي مثل “جرح على جبين الرحالة ليوناردو”؟ هل هو انتقال من الجرح الجماعي إلى الجرح الفردي؟   

المسغبة رواية حرب بامتياز، وهي تنتمي إلى ذلك النوع من الأدب، لكنها كما تفضلت في وصفك إياها، جرح جماعي، جرح الإنسان السوري كضحية للحرب الضروس؛ كل رواية تحمل بالضرورة جروحاً تعبّر عن آلام وخيبات ومرارات الناس؛ المسغبة رواية طويلة جدا بالمقارنة مع رواية جرح على جبين الرحالة ليوناردو، استغراق عميق في تفاصيل الشخصيات واستعراض يومياتها في أجواء الحرب، أما رواية جرح ليوناردو فإنها توصيف دقيق لفلسفة الجرح في الحياة، الجرح كدلالة رمزية ووجودية على الأوجاع النفسية الصامتة؛ التحول بين ظروف كتابة الروايتين لم يكن سريعاً ولا عبثيا دون أسباب، فالمسغبة كانت أكثر تعبيراً عن حيوات الآخرين، بينما جرح على جبين الرحالة ليوناردو مسَّت شغاف النفس والوعي، إنها جزء حي من تجاربي الشخصية في بلاد المهجر.

هل ترى أن الكتابة عن الألم والغربة أصبحت ضرورة وجودية بالنسبة لك، أم أنها انعكاس لحالة ذاتية؟ 

كلا الأمرين معا، فالألم بالنسبة لي ليس مجرد قدر أو صدفة فرضتها الطبيعة، بل حالة ملازمة يطرحها الواقع الإنساني المعقّد بكل حمولاته التاريخية والفردية المتناقضة، ونفس الأمر ينطبق على تعريفات الغربة، سواء الغربة بين العوالم البشرية المختلفة أو الغربة الذاتية داخل عوالم النفس؛ الألم مصدر الإبداع، والغربة عامل محفّز للكتابة بمقدار توفّر الألم الداخلي، ولا غرابة أن نكتشف أن أعظم الروايات الإبداعية خرجت من بين أيدي كُتَّاب، عاش كل واحد منهم ألمه الصامت، فدافع الكتابة عادة ما يكون بسبب الألم الباطني الذي لا يستطيع أن يعبّر عنه الفرد سوى بالسرد العميق، وخلاف ذلك تصبح الكتابة مجرد وسيلة لقضاء الوقت بغرض التسلية، أو رغبة بعض المؤلفين الناشئين ذوي الخبرات الأدبية المحدودة في تقديم أنفسهم للجمهور ككتاب مبدعين.

أرى أن الألم ثمن كل شيء في الحياة، الإبداع، التميز، النجاح، بشرط التعلّم منه.

 

كيف أثرت تجربتك الشخصية كمهاجر في النمسا على بناء شخصيات رواياتك؟ 

وصلت إلى النمسا كلاجئ حرب مثلما وصلت قبل ذلك إلى مصر العزيزة كلاجئ سياسي، في مصر كتبت المسرحيات كنوع أدبي، ما زلت أذكر كيف بدأت بكتابة المسرحية الأولى، كأول كتاب في حياتي منذ الأسبوع الثاني لإقامتي في حي عين شمس القاهري، تولتني رغبة هائلة دفعتني إلى الكتابة الأدبية في ظلال الغربة والمنفى، لكنها سرعان ما تطوّرت وربما – كما أعتقد وأشعر- ارتقت إلى مستوى الكتابة الإبداعية في خضم الألم؛ ثمة فارق جوهري بين تجربتي ككاتب سوري شاب دون سن الثلاثين، عندما كنت أعيش في مصر، وتجربتي كروائي مهاجر إلى أوروبا، في التجربة الثانية قطعت سن الثلاثين، وبتُّ أكثر تحسُّساً بالألم الداخلي الناتج عن ظروف الحرب، والخسائر النفسية على مستوى العائلة والأصدقاء، فضلاً عن مشاعر الوحدة والعزلة في المجتمع الأوروبي الجديد؛ كل تلك الصعوبات والضغوطات جعلتني أكثر ألماماً وإدراكاً وإبداعاً في بناء الرواية، واختيار الشخصيات على أساس التجارب والخبرات الشخصية.

 

هل ترى أن المنفى يعيد تشكيل الكاتب أم يكشف جوهره الحقيقي؟ 

المنفى أعظم مختبر للأدباء، فابتعادك القسري عن أثمن ما تملك، وفقدانك لمن تحب سيدفعك للكتابة بلا انقطاع، كما أنّ الكتابة لا تصبح مجرد وسلية للكاتب، بل غايته القصوى في سبيل تأكيد وجوده الحتمي، ومن خلال هذا التأكيد سيكشف الكاتب لا محالة عن جوهره الإنساني الخالص، وسيغدو إنتاجه الأدبي أكثر رصانة وصدقاً مع الذات؛ ما أود قوله هنا بكل صراحة، أن المنفى لا يعيد تشكيل الكاتب فحسب، إنما يحرره من أي قيود سواء أكانت تابعة للسلطة أم للمجتمع، فالكاتب في ظلال المنفى أكثر تحرراً في صياغة نصوصه الأدبية إلى العالم، من نظيره الذي لا يزال متقوقعاً داخل حدود المكان، فكلما زادت ضريبة المنفى على الكاتب، زادت جودة إبداعه، فليس المنفى هروباً من الواقع بقدر ما هو استمرار في معترك الحياة.

 

لماذا تميل لغتك السردية إلى التأمل والفلسفة؟

ترعرعت كطفل وشاب يافع في محيط اجتماعي متشابك، وقيم عائلية شديدة التعقيد لا سبيل لنكرانها، لكني لم أستسلم البتة لها، بل سعيت إلى فهمها ومراجعتها عن طريق طرح الأسئلة الوجودية الموجهة للذات وللآخرين، بعضها بدا حرجاً للغاية، وبعضها الآخر أكثر تصالحاً وأشد اقتراباً من الحقيقة، وهو ما ساهم في خلق بيئة فلسفية، كان لها الدور الأكبر في بناء خصائص الشخصية، فتأطرت علاقاتي بالناس على أساس تلك البيئة المعرفية، التي بدت غامضة وغير واضحة للبعض، فتأثرت العلاقات بها، وراحت دائرة المحيطين تضيق بي، ولم يبق سوى القليل من الأصدقاء الواقعيين، مِمَن يشاركونني الرغبة في فهم الحياة إلى أن وجدتني أقف أمام تأملاتي التي تشبهني.

الفلسفة زادي المعرفي وسبيلي إلى فهم الحياة والبشر، لأنها – الحياة- لا تستطيع فهمها وفقاً لقوانين الفيزياء والرياضيات، دون الغوص في أعماق الفكر الإنساني، الذي هو أساس الفلسفة، ثم إن الرواية المعاصرة في جوهرها، فلسفة أدبية لا بد لها أن تلامس حدود الجمال والأخلاق (الفضيلة) وفي نفس الوقت تناقش وتعالج عبر السرد والحوار (الرذيلة).

هل ترى أن اسمك (ثائر) كان قدرًا أدبيًا له تأثير على اختياراتك الأدبية؟ وهل تشعر أحيانًا أن الاسم يفرض عليك نوعًا معينًا من الكتابة؟ 

الصيرورة الأدبية ثورة متجددة تأبى الثبات، فكل الأحداث الحياتية وخبايا النفس البشرية عرضة للتنقيب الأدبي؛ إذا كان الاسم يحمل في جوهره معنى الثورة، فإن الرواية كأحد أسمى الأنواع الأدبية ثورة على الواقع بهذا المعنى، ثمة روايات أوروبية خالدة أسهمت مضامينها الفلسفية العميقة في التأسيس للعلوم الإنسانية بشهادة مؤسسي تلك العلوم، أتحدث هنا عن رواية الإخوة كارامازوف لديستويفسكي، وشهادة الدكتور سيجموند فرويد بعظمتها في تحليل النفس البشرية كما لو كانت ثورة أدبية.

كما أنها -الرواية- مواكبة لتحولات المجتمع كلها، لهذا السبب نستطيع أن نفهم سبب استمرارها منذ ما يزيد عن قرنين ومنافستها للنصوص الأدبية الأخرى كالشعر والقصة والمسرح، وعليه فإنني أشعر بحاجة دائمة إلى اكتشاف كل جديد يتعلق بالفرد والمجتمع والأماكن، والاكتشاف بحد ذاته يحفز الرغبة في الكتابة.

قد يعجبك أيضًا
اترك ردًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.